الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: جامع الرسائل **
أو فتوى في مسألة الكلام لشيخ الإسلام رحمه الله: سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رجل قال: إن الله لم يكلم موسى تكليماً وإنما خلق الكلام والصوت في الشجرة وموسى عليه السلام سمع من الشجرة لا من الله وأن الله عز وجل لم يكلم جبريل بالقرآن وإنما أخذه من اللوح المحفوظ فهل هو على الصواب أم لا فأجاب: الحمد الله ليس هذا على الصواب بل هذا ضال مفتر كاذب باتفاق سلف الأمة وأئمتها بل هو كافر يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل وإذا قال لا أكذب بلفظ القرآن وهو قوله " وأول من قال هذه المقالة في الإسلام كان يقال له الجعد بن درهم فضحى به خالد بن عبد الله القسري يوم أضحى فإنه خطب الناس فقال في خطبته: ضحوا أيها الناس تقبل الله ضحاياكم فإني مضحٍ بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً. ثم نزل فذبحه. وكان ذلك في زمن التابعين فشكروا ذلك وأخذ هذه المقالة عنه جهم بن صفوان وقتله بخراسان سلمة بن أحور وإليه نسبت هذه المقالة التي تسمى مقالة الجهمية وهي نفي صفات الله تعالى فإنهم يقولون: إن الله لا يرى في الآخرة ولا يكلم عباده وأنه ليس له علم ولا حياة ولا قدرة ونحو ذلك من الصفات ويقولون القرآن مخلوق. ووافق الجهم على ذلك المعتزلة أصحاب عمرو بن عبيد وضموا إليها بدعاً أخرى في القدر وغيره لكن المعتزلة يقولون أن الله كلم موسى حقيقة وتكلم حقيقة لكن حقيقة ذلك عندهم أنه خلق كلاماً في غيره إما في شجرة وإما في هواء وإما في غير ذلك من غير أن يقوم بذات الله عندهم كلام ولا علم ولا قدرة ولا رحمة ولا مشيئة ولا حياة ولا شيء من الصفات. والجهمية تارة يبوحون بحقيقة القول فيقولون: أن الله لم يكلم موسى تكليماً ولا يتكلم وتارة لا يظهرون هذا اللفظ لما فيه من الشناعة المخالفة لدين الإسلام واليهود والنصارى فيقرون باللفظ ولكن يقرنونه بأنه خلق في غيره كلاماً. وأئمة الدين كلهم متفقون على ما جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة من أن الله كلم موسى تكليماً وأن القرآن كلام الله غير مخلوق وأن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة كما تواترت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأن لله علماً وقدرة ونحو ذلك. ونصوص الأئمة في ذلك مشهورة متواترة حتى أن أبا القاسم الطبري الحافظ لما ذكر في كتابه في شرح أصول السنة مقالات السلف والأئمة في الأصول ذكر من قال القرآن كلام الله غير مخلوق وقال: فهؤلاء خمسمائة وخمسون نفساً أو أكثر من التابعين والأئمة المرضيين سوى الصحابة على اختلاف الأعصار ومضي السنين والأعوام وفيهم نحو من مائة إمام ممن أخذ الناس بقولهم وتدينوا بمذاهبهم ولو اشتغلت بنقل قول أهل الحديث لبلغت أسماؤهم الوفا لكني اختصرت فنقلت عن هؤلاء عصراً بعد عصر لا ينكر عليهم منكر ومن أنكر قولهم استتابوه أو أمروا بقتله أو نفيه أو صلبه قال: ولا خلاف بين الأمة أن أول من قال القرآن مخلوق جعد بن درهم في سني نيف وعشرين ومائة ثم جهم بن صفوان فأما جعد فقتله خالد بن عبد الله القسري وأما وروى بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من وجهين أنهم قالوا له يوم صفين: حكمت رجلين فقال: ما حكمت مخلوقاً ما حكمت إلا القرآن وعن عكرمة قال: كان ابن عباس في جنازة فلما وضع الميت في لحده قام رجل وقال: اللهم رب القرآن اغفر له فوثب إليه ابن عباس فقال: مه القرآن منه. وعن عبد الله بن مسعود قال: من حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين. وهذا ثابت عن ابن مسعود. وعن سفيان بن عيينة قال: سمعت عمرو بن دينار يقول: أدركت مشايخنا والناس منذ سبعين سنة يقولون: القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود. وفي لفظ يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق. وقال حرب الكرماني ثنا إسحاق بن إبراهيم يعني ابن راهويه عن سفيان بن عيينة عن عمرو ابن دينار قال: أدركت الناس منذ سبعين سنة أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فمن دونهم يقولون: الله الخالق وما سواه مخلوق إلا القرآن فإنه كلام الله منه خرج وإليه يعود. وهذا قد رواه عن ابن عيينة إسحاق وإسحاق إما أن يكون سمعه منه أو من بعض أصحابه عنه. وعن جعفر الصادق بن محمد - وهو مشهور عنه - أنهم سألوه عن القرآن أخالق هو أم مخلوق فقال: ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله. وهكذا روى عن الحسن البصري وأيوب السختياني وسليمان التيمي وخلق من التابعين. وعن مالك بن أنس والليث بن سعد وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأمثال هؤلاء من الأئمة وكلام هؤلاء الأئمة وأتباعهم في ذلك كثير مشهور بل اشتهر عن أئمة السلف تكفير من قال القرآن مخلوق وأنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل كما ذكروا ذلك عن مالك بن أنس وغيره ولذلك قال الشافعي لحفص الفرد وكان من أصحاب ضرار بن عمرو ممن يقول القرآن مخلوق فلما ناظر الشافعي وقال له القرآن مخلوق قال له الشافعي: كفرت بالله العظيم. ذكره ابن أبي حاتم في الرد على الجهمية قال كان في كتابي عن الربيع بن سليمان قال: حضرت الشافعي أو حدثني أبو شعيب ألا أني أعلم حضر عبد الله بن عبد الحكم ويوسف بن عمرو بن يزيد فسأل حفص عبد الله قال: ما تقول في القرآن فأبى أن يجيبه فسأل يوسف بن عمرو فلم يجبه وكلاهما أشار إلى الشافعي فسأل الشافعي فاحتج عليه وطالت فيه المناظرة فقال الشافعي بالحجة بأن القرآن كلام الله غير مخلوق وكفر حفصاً الفرد قال الربيع فلقيت حفصاً في المسجد بعد هذا فقال: أراد الشافعي قتلي. وأما مالك بن أنس فنقل عنه من غير وجه الرد على من يقول القرآن مخلوق واستتابته وهذا المشهور عنه متفق عليه بين أصحابه وأما أبو حنيفة وأصحابه فقد ذكر أبو جعفر الطحاوي في الاعتقاد الذي قال في أوله: ذكر بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني قال فيه: وإن القرآن كلام الله منه بدأ بلا كيفية قولاً وأنزله على نبيه وحياً وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً وأثبتوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفره وقد ذمه الله وعابه وأوعده عذابه وتوعده حيث قال: " وأما أحمد بن حنبل فكلامه في مثل هذا مشهور متواتر وهو الذي اشتهر بمحنة هؤلاء الجهمية فإنهم أظهروا القول بإنكار صفات الله تعالى وحقائق أسمائه وأن القرآن مخلوق حتى صار حقيقة قولهم تعطيل الخالق سبحانه وتعالى ودعوا الناس إلى ذلك وعاقبوا من لم يحبهم إما بالقتل وإما بقطع الرزق وإما بالعزل عن الولاية وإما بالحبس أو بالضرب وكفروا من خالفهم فثبت الله تعالى الإمام أحمد حتى أظهر الله به باطلهم ونصر أهل الإيمان والسنة عليهم وأذلهم بعد العز وأخملهم بعد الشهرة واشتهر عند خواص الأمة وعوامها أن القرآن كلام الله غير مخلوق وأما إطلاق القول بأن الله لم يكلم موسى فهذه مناقضة لنص القرآن فهو أعظم من القول بأن القرآن مخلوق وهذا بلا ريب يستتاب فإن تاب وإلا قتل فإنه أنكر نص القرآن وبذلك أفتى الأئمة والسلف في مثله والذي يقول القرآن مخلوق فهو في المعنى موافق له فلذلك كفره السلف. قال البخاري في كتاب خلق الأفعال قال سفيان الثوري: من قال القرآن مخلوق فهو كافر قال: وقال عبد الله بن المبارك من قال " وقال: من قال " قال: وقال علي بن عاصم: ما الذين قالوا أن لله ولداً أكفر من الذين قالوا إن الله لا يتكلم. قال البخاري وكان إسماعيل بن أبي إدريس يسميهم زنادقة العراق وقيل له: سمعت أحداً يقول القرآن مخلوق فقال: هؤلاء الزنادقة. قال: وقال أبو الوليد سمعت يحيى بن سعيد - وذكر له أن قوماً يقولون القرآن مخلوق - فقال: كيف يصنعون ب " فأخبر بذلك أبو عبيد فاستحسنه وأعجبه. ومعنى كلام هؤلاء السلف رضي الله عنهم: إن من قال أن كلام الله مخلوق خلقه في الشجرة أو غيرها كما قال هذا الجهمي المعتزلي المسؤول عنه كان حقيقة قوله أن الشجرة هي التي قالت لموسى " ولا ريب أن قول هؤلاء يؤول إلى قول فرعون وإن كانوا لا يفهمون ذلك فإن فرعون كذب وموسى فيما أخبر به: من أن ربه هو الأعلى وأنه كلمه كما قال تعالى " وقال تعالى: " وقد قال تعالى: " الوجه الثالث أن الاسم المشتق من معنى لا يتحقق بدون ذلك المعنى فاسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة وأفعال التفضيل يمتنع ثبوت معناها دون معنى المصدر التي هي مشتقة منه والناس متفقون على أنه لا يكون متحرك ولا متكلم إلا بحركة وكلام فلا يكون مريد إلا بإرادة وكذلك لا يكون عالم إلا بعلم ولا قادر إلا بقدرة ونحو ذلك. ثم هذه الأسماء المشتقة من المصدر إنما يسمى بها من قام به مسمى المصدر فإنما يسمى بالحي من قامت به الحياة وبالمتحرك من قامت به الحركة وبالعالم من قام به العلم وبالقادر من قامت به القدرة فأما من لم يقم به مسمى المصدر فيمتنع أن يسمى باسم الفاعل ونحوه من الصفات وهذا معلوم بالاعتبار في جميع النظائر وذلك لأن اسم الفاعل ونحوه من المشتقات هو مركب يدل على الذات وعلى الصفة والمركب يمتنع تحققه بدون تحقق مفرداته وهذا كما أنه ثابت في الأسماء المشتقة فكذلك في الأفعال مثل تكلم وكلم ويتكلم وعلم ويعلم وسمع ويسمع ورأى ويرى ونحو ذلك سواء قيل أن الفعل المشتق من المصدر أو المصدر مشتق من الفعل لا نزاع بين الناس أن الفاعل الفعل هو فاعل المصدر فإذا قيل كلم أو علم أو تكلم أو تعلم ففاعل التكليم والتعليم هو المكلم والمعلم وكذلك التعلم والتكلم والفاعل هو الذي قام به المصدر الذي هو التكليم والتعليم والتكلم والتعلم فإذا قيل: تكلم فلان أو كلم فلان فلاناً ففلان هو المتكلم والمكلم فقوله تعالى: " الثاني أن الصفة إذا قامت بمحل كالعلم والقدرة والكلام والحركة عاد حكمه إلى ذلك المحل ولا يعود حكمه إلى غيره. الثالث أنه مشتق المصدر منه اسم الفاعل والصفة المشبهة به ونحو ذلك ولا يشتق ذلك لغيره وهذا كله بين ظاهر وهو ما يبين قول السلف والأئمة أن من قال أن الله خلق كلاماً في غيره لزمه أن يكون حكم التكلم عائداً إلى ذلك المحل لا إلى الله. الرابع أن الله أكد تكليم موسى بالمصدر فقال " تكليماً " قال غير واحد من العلماء: التوكيد بالمصدر ينفي المجاز لئلا يظن أنه أرسل إليه رسولاً أو كتب إليه كتاباً بل كلمه منه إليه. والخامس أن الله فضل موسى بتكليمه إياه على غيره ممن لم يكلمه وقال " فكان قول هؤلاء مضاهياً لقول المتفلسفة الدهرية الذي يجعلون وجود الرب وجوداً مطلقاً بشرط الإطلاق لا صفة له وقد علم أن المطلق بشرط الإطلاق لا يوجد إلا في الذهن وهؤلاء الدهرية ينكرون أيضاً حقيقة تكليمه لموسى ويقولون إنما هو فيض فاض عليه من العقل الفعال وهكذا يقولون في الوحي إلى جميع الأنبياء وحقيقة قولهم أن القرآن قول البشر لكنه صدر عن نفس صافية شريفة وإذا كانت المعتزلة خيراً من هؤلاء وقد كفر السلف من يقول بقولهم فكيف هؤلاء وكلام السلف والأئمة في مثل هؤلاء لا يحصى قال حرب بن إسماعيل الكرماني: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: بين أهل العلم اختلاف أن القرآن كلام الله وليس بمخلوق وكيف يكون شيء من الرب عز ذكره مخلوقاً ولو كان كما قالوا لزمهم أن يقولوا علم الله وقدرته ومشيئته مخلوقة فإن قالوا ذلك لزمهم أن يقولوا كان الله تبارك اسمه ولا علم ولا قدرة ولا مشيئة وهو الكفر المحض الواضح لم يزل الله عالماً متكلماً له المشيئة في خلقه والقرآن كلام الله وليس بمخلوق فمن زعم أنه مخلوق فهو كافر. وقال وكيع بن الجراح: من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن شيئاً من الله مخلوق فقيل له: من أين قلت هذا قال: لأن الله يقول " وقال أحمد بن حنبل: كلام الله من الله ليس ببائن منه وهذا معنى قول السلف القرآن كلام الله منه بدا ومنه خرج وإليه يعود كما في الحديث الذي رواه أحمد غيره عن جبير بن نفير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه " يعني القرآن. وقد روي عن أبي أمامة مرفوعاً. وقال أبو بكر الصديق لأصحاب مسيلمة الكذاب لما سمع قرآن مسيلمة: ويحكم أين يذهب بعقولكم إن هذا كلاماً لم يخرج من إلٍ " أي من رب. وليس معنى قول السلف والأئمة: أنه منه خرج ومنه بدا أنه فارق ذاته وحل بغيره فإن كلام المخلوق إذا تكلم به لا يفارق ذاته ويحل بغيره فكيف يكون كلام الله قال تعالى: " وقال صلى الله عليه وسلم: " زينوا القرآن بأصواتكم ". ولكن مقصود السلف الرد على هؤلاء الجهمية فإنهم زعموا أن القرآن خلقه الله في غيره فيكون قد ابتدأ وخرج من ذلك المحل الذي خلق فيه لا من الله كما يقولون كلامه لموسى خرج من الشجرة فبين السلف والأئمة أن القرآن من الله بدأ وخرج وذكروا قوله " ومن هي لابتداء الغاية فإن كان المجرور بها عيناً يقوم بنفسه لم يكن صفة لله كقوله " ثم إن كان جبريل لم يسمعه من الله وإنما وجده مكتوباً كانت العبارة عبارة جبريل وكان القرآن كلام جبريل ترجم به عن الله كما يترجم عن الأخرس الذي كتب كلاماً ولم يقدر أن يتكلم به وهذا خلاف دين المسلمين. وإن احتج محتج بقوله " وإن احتج بقوله " وهذه المسألة في أصول أهل الإيمان والسنة التي فارقوا بها الجهمية من المعتزلة والفلاسفة ونحوهم والكلام عليها مبسوط في غير هذا الموضع والله أعلم.
|